سبب نزول سورة الكهف
ذكر جمعٌ من المفسرين أنّ سورة الكهف في مجملها نزلت على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لمّا بدأت قريش تهتمّ لشأن هذا الدين، بعدما ازداد عدد المسلمين، وكثر اعتناق الدين الإسلاميّ، فبعثت قريش جماعة منهم إلى أحبار اليهود يسألونهم عن رأيّهم في دعوة النبي -صلوات الله عليه-؛ إذ إنّ اليهود أهل ديانة، وأهل كتاب سماويّ، ولديهم بعض العلم من أنبيائهم -صلوات الله عليه-، فطمعت قريش أن تجد في جوابهم ما يقويّ موقفهم، ويعينهم على افتراءاتهم ضد الدين الإسلاميّ.[١]
ولمّا سمع الأحبار وصف قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولفحوى دعوته؛ طلبوا منهم أن يسألوه عن ثلاثة أمور، إن أجاب عنها كان نبياً، وإن لم يُجب لم يكن كذلك؛ وهذه الأمور الثلاث كانت تتعلق بفتية الكهف الذين كانوا في الدهر الأول، وعن ذي القرنين الرجل الطوّاف الذي سار من مشارق الأرض إلى مغاربها، وعن حقيقة الروّح، فانطلقت قريش تسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلمّا أتوه وطلبوا منه الإجابة عن أسئلتهم، أخبرهم -صلوات الله عليه- أن يأتوه غداً.[١]
وانتظر النبي الكريم نزول الوحيّ ليعلم منه ما يجيب القوم به، ولكنّ الوحيّ انحبس عن النبي فترة جعلت قريش تتهمه فيها بالعجز عن الرّد، والتشكيك بنبوته؛ حتى نزل جبريل -عليه السلام- بسورة الكهف رداً على أسئلة أحبار اليهود.[١] وتجدر الإشارة إلى أنّ ذكر سبب نزول سورة الكهف في هذا المقام فيه تنبيه على السبب العام الذي صاحب نزولها، أو كان سبباً لنزولها، إذ لم يرد في الآيات العشر الأخيرة من سورة الكهف أسباباً نزول خاصةٍ بها، ولكن يمكن شرحها وبيانها على النحو الآتي:
آخر عشر آيات من سورة الكهف: شرحها ومناسبة نزولها
الآية الأولى من العشر الأواخر لسورة الكهف
قال -سبحانه وتعالى- في وصف الكافرين الذين عُرضت لهم نار جهنّم: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا)؛[٢] فهؤلاء الكافرون كانوا يُعرضون عن ذكر الله -تعالى- وعن آياته في هذا الكون، فلا يتفكرون ولا يعتبرون، ولا ينقادون لأمر الله -سبحانه- فكانوا كمن لا يملك السمع بخذلان الله لهم، وانغماسهم في الشقاء والكفر، وإيثار الضلالة والهوى على الهداية.[٣]
الآية الثانية من العشر الأواخر لسورة الكهف
يُوبخّ الله -تعالى- المشركين في هذه الآية، ويُخوّفهم بصيغة استفهام، فيقول -سبحانه-: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا).[٤]
ومعنى ذلك أنّ المشركين ظنّوا أنهم سينتفعون بما عبدوا، وأشركوا مع الله -تعالى- من عباده ومخلوقاته، فأعرضوا عن الخالق ربّ الأرباب، ولجأوا إلى من هو دونه، فكان استحقاقهم للوعيد حقّاً، وتبرأ الشركاء وما اتخذوه آلهةً من دون الله -تعالى- منهم، وكانت النار منزلاً ومستقراً مُعدّاً لهم، كما يكون البيت مُعدّاً للضيف، وفي هذا تهكم بهم، وبأفعالهم.[٥]
الآيتان الثالثة والرابعة من العشر الأواخر لسورة الكهف
يُوجّه الله -تعالى- الخطاب لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليُنبأ الكافرون بمن هم أضلّ وأخسر الناس؛ فيقول المولى -سبحانه-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).[٦]
إذ إنّ هؤلاء الأخسرين ضلّوا بحياتهم، وأتعبوا أنفسهم فيما لا ينفعهم، وعملوا أعمالاً باطلة، وحادوا عن الطريق، وهم يظنّون أنّهم محسنون بذلك، فما كان نتيجة هذا النهج إلا الخسران، وتضييع الثمار، وخسارة الدنيا والآخرة.[٧]
الآيتان الخامسة والسادسة من العشر الأواخر لسورة الكهف
تستكمل الآيات الكريمة في وصف الكافرين الخاسرين، وبيان مصيرهم؛ فيقول -سبحانه- (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا* ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا).[٨]
وفي هذه الآيات يُضيف الله -تعالى- سبباً جديداً لاستحقاق الكافرين العذاب والمهانة، وعد المبالاة بهم يوم القيامة؛ بأنّهم جحدوا الآيات، ولم يعتبروا بها، وسخروا من الرسل، ومما حملوا لهم من الدعوة والهداية، لذا لا تقام لهم الأوزان يوم القيامة؛ إذ لا حسنات لهم ولا أجور، ولا مكانة لهم ولا اعتبار، فكان الجزاء من جنس العمل.[٩]
الآيتان السابعة والثامنة من العشر الأواخر لسورة الكهف
وعد الله -سبحانه- المؤمنين بحسن الجزاء، فقال -جلّ في علاه-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا* خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)؛[١٠] فكان ذكر حال المؤمنين وذكر جزائهم مناسباً لما كان من ذكر الكافرين ووصفهم، وبيان سوء عاقبتهم.[١١]
ولقد وعد الله -تعالى- بإكرام المؤمنين الذين قرنوا إيمانهم بالعمل الصالح، بالجنّات العالية، والثمار النفيسة، مع إكرامهم بكلّ ما يليق بهم، حتى تكون هذه الجنان أعزّ ما ملكوا، وأحسن ما أُثيبوا، وأكثر ما اشتاقوا؛ فلا يرغبون بالتحوّل عنها، أو عن النعيم الخالد فيها.[١١]
الآيتان التاسعة والعاشرة من العشر الأواخر لسورة الكهف
تختتم سورة الكهف بخطاب آخر لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيقول له المولى -سبحانه-: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا* قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).[١٢]
وفي الآية الأولى من هذا الخطاب الإلهيّ يُبيّن الله -سبحانه- لعباده مدى علمه وحكمته، وعظيم قدرته وسعة آياته؛ فيقول لهم: لو كان البحر مما يُستمدّ به، أو لو جئنا بمداد على قدر ماء البحر، لانتهى ونفد قبل أن تنتهي كلمات الله -تعالى-، ولو جيء بمثل هذا المداد أو هذا البحر مرات أُخرى.[١٣]
ثم تُؤكد الآية الثانيّة من الخطاب على بشريّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنّه كباقي البشر -لا من الملائكة- لا يختلف عنهم إلا بالوحيّ والنبوة، لا يأتي إلا بما يريده الله -تعالى- لا بما يُريده العباد، فمن أراد الفلاح والنجاة فعليه بالتوحيد، وإفراد المولى -سبحانه- بالعبودية ونبذ كل شريك، مع إخلاص الإيمان وإقرانه بالعمل الصالح إلى أن يلقى الله -تعالى- على هذا الحال.[١٤]
المراجع
- ^ أ ب ت سعيد حوى، الأساس في التفسير، صفحة 3148، جزء 6. بتصرّف.
- ↑ سورة الكهف، آية:101
- ↑ أبو جعفر ابن جرير الطبري، تفسير الطبري جامع البيان، صفحة 420، جزء 15. بتصرّف.
- ↑ سورة الكهف، آية:102
- ↑ صديق حسن خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، صفحة 121-122، جزء 8. بتصرّف.
- ↑ سورة الكهف، آية:103-104
- ↑ وهبة الزحيلي، التفسير المنير، صفحة 36، جزء 16. بتصرّف.
- ↑ سورة الكهف، آية:105-106
- ↑ عبد الرحمن السعدي، تفسير السعدي تيسير الكريم الرحمن، صفحة 487. بتصرّف.
- ↑ سورة الكهف، آية:107-108
- ^ أ ب الشوكاني، فتح القدير، صفحة 373، جزء 3. بتصرّف.
- ↑ سورة الكهف، آية:109-110
- ↑ الشوكاني، فتح القدير، صفحة 375، جزء 3. بتصرّف.
- ↑ أحمد حطيبة، تفسير أحمد حطيبة، صفحة 8، جزء 394. بتصرّف.