أسباب نزول آخر عشر آيات من سورة آل عمران
أورد أهل العلم في كتبهم ومؤلفاتهم التي تتعلق بأسباب نزول آيات القرآن الكريم، أوردوا أسباب نزول بعض آيات سورة آل عمران، ونخصّ بالذكر ما جاء في نزول الآيات العشر الأواخر من هذه السورة المباركة، نبيّنها على النحو الآتي:[١]
- قوله -تعالى-: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ...)[٢]
قيل إنّ هذه الآية نزلت لمّا سألت أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذكر النساء في الهجرة؛ فقالت: (يا رسولَ اللهِ، لا أَسْمعُ اللهَ ذَكَرَ النِّساءَ في الهجرةِ بشيءٍ...)،[٣] فنزلت هذه الآية تبيّن أجر المسلمين والمسلمات الذين هاجروا، وأخرجوا من ديارهم.
وقد اعترض بعض أهل العلم على أن يكون سؤال أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- هو سبب نزول هذه الآية الكريمة؛ وذلك لعلّة في الحديث تُضعّفه عند بعض أهل العلم، فلا يصحّ عنها شيء في هذا، إضافةً إلى أنّ السياق القرآني لا يُؤيد هذا السبب.[٤]
إنّما جاء يُؤيد أنّ هذه الآية الكريمة كانت جواب دعاء الذين جاء ذكرهم في الآيتين السابقتين، من قوله -تعالى-: (... رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)،[٥] إلى قوله -تعالى-: (... ولَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)،[٦] فلو كان سؤال أم سلمة -رضي الله عنها- سبباً للنزول لانقطع الدعاء عن الجواب.[٤]
- قوله -تعالى-: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ)[٧]
قيل إنّها نزلت في مشركي مكة المكرمة؛ لأنّهم كانوا يتنعمون ويعيشون برغدٍ من العيش، حتى تسلل إلى قلوب بعض المؤمنين شيءٌ من هذا، وقالوا إنّ أعداء الله -تعالى- ينعمون بالخير والتجارة، ونحن نهلك ونجوع، فنزلت هذه الآية.
- قوله -تعالى-: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ...)[٨]
نقل غير واحدٍ من أهل العلم أنّ هذه الآية نزلت بعد وفاة النجاشيّ، إذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالصلاة عليه، فقد كان مسلماً مخفيّاً لإسلامه، فاعترض بعض المسلمين، واستنكروا الصلاة عليه، فنزلت هذه الآية الكريمة، وقيل نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب.
وقد صحّ في ذلك عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّه قال: (مَّا جاء نَعْيُ النَّجاشيِّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صلُّوا عليه، قالوا: يا رَسولَ اللهِ نُصَلِّي على عَبدٍ حَبَشيٍّ؟ قال: فأنزل الُله تعالى "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ" الآية).[٩][١٠]
- قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا...)[١١]
صحّ عن الحاكم في مستدركه أنّ هذه الآية نزلت لعدم وجود غزو أو جهاد يُرابط فيه زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إنّما كانت المرابطة بانتظار الصلاة إلى الصلاة، وفي هذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن -رضي الله عنه- لابن أخيه: (... يا ابنَ أخي، هل تَدْري في أيِّ شيءٍ نَزَلَتْ هذه الآيةُ: "اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا"؟ قالَ: قلتُ: لا، قالَ: يا ابنَ أخي، إنِّي سَمِعْتُ أبا هُريرةَ يقولُ: لمْ يكُنْ في زمانِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- غَزْوٌ يُرابَطُ فيه، ولكنِ انتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ).[١٢]
شرح آخر عشر آيات من سورة آل عمران
يمكن تقسيم الآيات العشر الأواخر من سورة آل عمران بحسب الموضوعات؛ ليسهل جمع كل الآيات التي ترتبط مع بعضها، ويتم المعنى الذي جاءت به، وبالتالي يسهل شرحها وبيانها، وفيما يأتي توضيح لذلك:
- مدح الله لعباده المؤمنين
يقول -سبحانه- في امتداح عباده المؤمنين أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)،[١٣] فهؤلاء المؤمنون مع إعمالهم لعقولهم، واستخدامهم لها في التدبر والتفكر، والاستدلال على وجود الخالق، وعلى عظيم قدرته، فإنّهم دائمو الذكر لله -تعالى-، في جلوسهم، وقيامهم، واتكائهم.
وقد فسّر بعض أهل العلم الذكر بالصلاة؛ استدلالاً بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَلِّ قَائِمًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)،[١٤] كما فسّره بعضهم بالأذكار المسنونة؛ إذ إنّ التفكر في ملكوت الله -تعالى-، وحكمته، وبديع صنعه، يستثير القلب والعقل مما يدفع اللسان لقول: (... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ...)، ثم يتبع بعد ذلك الدعاء بالنجاة من النار جزاء المعرفة والتفكر، والتيقّن من قدرة الخالق على كل شيء.[١٥]
- دعاء المؤمنين واستجابة المولى لهم
جاء على لسان المؤمنين الذين امتدحهم الله -تعالى- في الآية السابقة عدداً من الأدعيّة، التي ناجوا بها المولى -سبحانه-، وطلبوا منه استجابتها؛ قال -تعالى- في ذلك: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).[١٦]
يُلاحظ بسؤال المؤمنين ودعائهم أنّه ابتدأ بقول: (رَبَّنَا)؛ زيادة في التضرّع ورجاء الاستجابة، فقد جاء التضرّع بالبعد عن دخول النار، وغفران الذنوب وتكفير السيئات، وأن يجعلهم الله مع جموع الأبرار الأتقياء والصالحين؛ فقد آمنوا بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، وصدّقوه واتبعوه.[١٧]
ثم اختتم الدعاء بطلب المولى أن يعطيهم كما أعطى رسله؛ من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة، أو النصر في الدنيا والجنان في الآخرة، وقيل أعطنا الإيمان بما أنزلت به رسلك، واصرف عنّا الخزي والخسران يوم القيامة، وفي هذا اعتراف بتقصيرهم واعتمادهم على توفيق الله -تعالى- وكرمه، وحسن التوكل عليه.[١٧]
وقد استجاب الله -تعالى- لهم دعائهم هذا، مبيّناً -سبحانه- أن لا فرق بين الذكر والأنثى في الأجر والثواب؛ فكل عامل ومهاجر في سبيل الله -تعالى- لقي من الأذى ما لقي، له حسن الثواب بالجنان التي تجري من تحتها الأنهار؛ قال -تعالى- في ذلك: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).[٢]
- جزاء الكافرين وثواب المؤمنين
قال -تعالى-: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ* لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ).[١٨]
تبتدأ هذه الآيات بتوجيه الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- تثبيتاً وتصبيراً له -صلوات الله عليه وسلم-؛ إذ هو ليس مغتراً بحال الكافرين ويُسر معيشتهم وسعتها، ولا بسلطانهم وأموالهم وتمتعهم وسرورهم، فإنّما كل ذلك متاع قليل في هذه الدنيا الزائلة، أمّا المتاع الدائم والباقي في الآخرة فقد فاتهم، وكان لأهل التقوى والإيمان؛ وفي هذا أيضاً تثبيت للمؤمنين بأن يبقوا على الحق والطريق القويم، ولو كانت الغلبة في الظاهر لأهل الكفر والعصيان.[١٩]
- الحديث عن خيرة أهل الكتاب
أخبر الله -تعالى- عن طائفة من أهل الكتاب قد آمنوا واهتدوا بالقرآن الكريم، فقال -سبحانه-: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).[٨]
وفي هذه الآية وصف الله -تعالى- هذه الطائفة من أهل الكتاب بصدق الإيمان وتمامه، والإيمان بالقرآن الكريم وما جاء فيه من التفصيل والأخبار، والإيمان بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل بالإجمال، وختاماً كان وصفهم بالخشوع الذي هو ثمرة الإيمان، والحفاظ على وحي الله -تعالى-، بعدم استبداله بمتاع الدنيا وحطامها كما كان بعض أهل الكتاب من اليهود يفعل ذلك. فهؤلاء المتصفون بهذه الصفات لهم الأجر الكامل والثواب الجزيل.[٢٠]
- ختام السورة
اختتم الله -سبحانه- سورة آل عمران بوصية للمؤمنين، مما يهينهم على الثبات في الدنيا والتمكين في الأرض، ونيل النصر والغلبة؛ فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).[١١]
وهذه الوصية تتضمن إرشاد المؤمنين إلى الصبر على المصاعب والشدائد، والأوامر والنواهي، والمصابرة على الأهواء وميل النفوس للمحرمات، إضافةً إلى المصابرة على أعداء الدين عند لقائهم، ثم المرابطة على دين الله -تعالى- بدءاً من بيوت الله -تعالى- والمساجد بانتظار الصلوات، وانتهاءً بالمرابطة على الثغور والحدود، وفي الختام جاءت التوصية بإدامة تقوى الله -تعالى- في كل ما سبق؛ لنيل الأجر والثواب والفلاح.
المراجع
- ↑ الواحدي، أسباب النزول، صفحة 139-141. بتصرّف.
- ^ أ ب سورة آل عمران، آية:195
- ↑ رواه الحاكم، في المستدرك على الصحيحين، عن أم المؤمنين أم سلمة، الصفحة أو الرقم:3216، صحيح على شرط البخاري.
- ^ أ ب خالد المزيني، المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة، صفحة 353، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:193
- ↑ سورة آل عمران، آية:194
- ↑ سورة آل عمران، آية:196
- ^ أ ب سورة آل عمران، آية:199
- ↑ رواه الضياء المقدسي، في الأحاديث المختارة، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:2038، أورده في المختارة وقال هذه أحاديث اخترتها مما ليس في البخاري ومسلم وصحح الألباني إسناده.
- ↑ مقبل بن هادي الوادعي، الصحيح المسند من أسباب النزول، صفحة 61.
- ^ أ ب سورة آل عمران، آية:200
- ↑ رواه الحاكم ، في المستدرك على الصحيحين، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، الصفحة أو الرقم:3219، صحيح الإسناد.
- ↑ سورة آل عمران، آية:191
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين، الصفحة أو الرقم:1117، صحيح.
- ↑ سعيد حوى، الأساس في التفسير، صفحة 964، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:192-194
- ^ أ ب وهبة الزحيلي، التفسير المنير، صفحة 208، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:196-198
- ↑ سعيد حوى، الأساس في التفسير، صفحة 966، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ وهبة الزحيلي، التفسير المنير، صفحة 215-216، جزء 4. بتصرّف.